
في سياق تبريره اضطرار تل أبيب إلى الموافقة على ما سمّاه «أهون الشرَّين»، أي وقف إطلاق النار مع لبنان، أشار رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، إلى أكثر من سبب دفعه إلى المضيّ قدماً في الاتفاق، ومن بينها ضرورة «إنعاش القوات» المسلحة، و«إعادة ملء المخازن العسكرية»، علماً أن هذين سببان مرادفان للقول إن «إسرائيل لم تَعُد قادرة على مواصلة الحرب». وتُمثّل إشارة نتنياهو تلك، إقراراً شبه مباشر بالعجز ميدانياً، في ظلّ محدودية الخيارات العملية لتحقيق الانتصار الذي وعد به.
على أن هذا الإقرار ليس الأهم - على أهميته -، بل تشديد نتنياهو على ضرورة وقف الحرب كي تتجهّز إسرائيل لمواجهة التهديد الإيراني، وذلك رغم عدم تحقيق انتصار كامل على «حزب الله»، هو لزوم مواجهة أنجع ضدّ «التهديد الإيراني». وليس مستبعداً أن يكون العجز عن تحقيق النتيجة المرجوّة ضدّ «حزب الله»، اضطره إلى استحضار إيران وتهديداتها، والتي ستكون على طاولة التخطيط والقرار الإسرائيلية، ربطاً بالحرب نفسها، أو بالإدارة الأميركية المقبلة التي قد تراهن تل أبيب على استعدادها لمواجهة طهران واحتوائها مرّة واحدة وإلى الأبد، بل وأيضاً إنهاء التهديدات الإقليمية بشكل كامل.
ومن بين الأسئلة التي تثار في هذا الإطار، هو تقدير ما استخلصته إيران نفسها من الحرب الأخيرة: فهل ستعيد ترميم قدرات «حزب الله» بما يعيدها إلى ما كانت عليه من نسق ومناعة استخبارية؟ أم أن هناك إستراتيجيات استعداد وتجهيز مغايرة أًظهرت الحرب ضرورة اللجوء إليها لدى إعادة ترميم القدرات، بما يغيّر من هوية هذه الأخيرة وقدرتها الإيذائية لمواجهة عناصر قوّة إسرائيل ودفاعاتها؟ والواقع أن السؤال المتقدّم ليس إلا واحداً من أسئلة ستكون مدار بحث وتقدير سيتواصلان على مدى الأشهر المقبلة في تل أبيب، إلى أن يستقرّا على وجهة تستند إلى مؤشرات الميدان ودلائله.
لكن الأكثر إقلاقاً بالنسبة إلى إسرائيل، والذي يبرّر ما ورد في كلمة نتنياهو عن التهديد الإيراني، هو ما إذا كانت الجمهورية الإسلامية ستُبقي على استعداداتها العسكرية الردعية الدفاعية والهجومية، وفقاً للمنحى العام الذي ميّزها إلى الآن، وتحديداً إلى ما قبل تبادل الضربات مع إسرائيل، أم أنها ستلجأ إلى مصدر اقتدار ردعي كبير جداً، ينهي أيّ رهان على أذيّتها عسكريّاً وأمنيّاً؟ في هذا الإطار، تحذّر مراكز البحث في تل أبيب من إمكان توجُّه طهران، بالفعل، إلى البحث عن عنوان ردع متين جداً، قد يدفعها إلى القفز عن ثوابتها في مجال القدرة النووية، والتخلّي عن كونها دولة عتبة نووية فقط، قادرة على إنتاج السلاح النووي في حال قرّرت ذلك، إلى الإنتاج نفسه، ما يمنع تالياً أيّ مسّ عسكري بها، ويضمن لها مظلّة حماية فعّالة، تشهد على نجاحها تجارب غيرها من الدول التي ترفض الخضوع للإرادة الأميركية.
تتزايد، منذ بعض الوقت، الدعوات داخل إيران إلى إعادة تقييم الإستراتيجية النووية
وكان «مركز أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب قد قدّر، في دراسة موجزة كُتبت ونُشرت قبل وقف إطلاق النار في لبنان، أن النهج المحتمل لتعديل العقيدة الأمنية الإيرانية يشير إلى أن تعزيز الردع ينبغي ألّا يقتصر على تطوير قدرات الصواريخ الإيرانية واستعادة إمكانية «حزب الله» والمحور الموالي لإيران، بل أن يشمل إعادة النظر في العقيدة النووية، واستكشاف إمكانية تحقيق اختراق نووي، وهو ما قد يكون بمنزلة «سياسة التأمين» النهائية ضدّ إسرائيل والولايات المتحدة. وأشارت الدراسة إلى أن التوجهات لتقصير وقت الاختراق النووي، أي القفز نحو القنبلة، تجلّت على مدى العام الماضي، بعد المطالبة بإعادة تقييم إستراتيجية إيران النووية، وتجاوز وضع العتبة الحالي. وعلى سبيل المثال، وأثناء التصعيد بين إسرائيل وإيران، في نيسان الماضي، حذّر قائد وحدة «الحرس الثوري» المكلفة حماية المنشآت النووية، أحمد حق طالب، من أن أيّ محاولة إسرائيلية لضرب هذه المنشآت، قد تدفع طهران إلى إعادة النظر في عقيدتها النووية. ولاحقاً، قال عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإسلامي، جواد كريمي قدوسي، إن في إمكان إيران إجراء تجربة نووية بعد أن تتلقّى الإذن من المرشد، في غضون أسبوع واحد. كذلك، اعتبر رئيس جامعة «شهيد بهشتي»، وعالم الفيزياء النووية محمود رضا آقاميري، في مقابلة مع التلفزيون الإيراني (7 نيسان)، أنه يمكن للمرشد تعديل فتواه الشرعية التي تحظر الأسلحة النووية، وأن إيران ستكون قادرة على إنتاجها إذا تغيّرت الفتوى.
وفي الأسابيع الأخيرة، تكثّفت مثل هذه التصريحات؛ إذ بعث عشرات النواب الإيرانيين، في تشرين الأول الماضي، برسالة رسمية إلى المجلس الأعلى للأمن القومي، يحثّونه فيها على مراجعة العقيدة الأمنية للجمهورية الإسلامية في ما يتعلّق ببرنامجها النووي. وفي الـ26 من الشهر نفسه، أعلن رئيس المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية، كمال خرازي، أن طهران قد تفكّر في توسيع مدى صواريخها الباليستية، وأن مراجعة العقيدة النووية تظلّ على جدول الأعمال إذا واجهت إيران تهديداً وجودياً، مؤكداً أن بلاده تمتلك القدرة التقنية لإنتاج الأسلحة النووية، وأن موقف المرشد الأعلى هو الذي يمنع ذلك. أيضاً، ووفقاً لمقالة نُشرت أخيراً في مجلة «سياست دفاعى» التي تُصدرها جامعة «الإمام الحسين» (تعمل بالتعاون مع وزارة الدفاع و«الحرس الثوري»)، فإن هناك حاجة إلى إعادة تقييم العقيدة النووية الإيرانية. ولفتت المجلة إلى أن إستراتيجية الردع النووي نجحت في الحفاظ على ردع أيّ هجوم عسكري شامل، إلا أن هذه الفعالية تتضاءل في ظلّ الديناميكيات العسكرية المتطوّرة والتهديدات المتزايدة، وخاصة الإسرائيلية ضدّ البرنامج النووي الإيراني.
وقد تكون دراسة «مركز أبحاث الأمن القومي»، وغيرها من المقاربات العبرية في المرحلة الحالية، جزءاً من دعاية إسرائيل وتحريضها على إيران، لكنها أيضاً، وهنا المفارقة، لا تخلو من مضمون حقيقي؛ إذ ترى تل أبيب أن ما يجري يدفع صانع القرار في طهران إلى وضع كل التهديدات على طاولة البحث، ومن بينها ما يوجب عليه أن يتّخذ قراره في ما إذا كان يجب القفز بلا إبطاء لتبديل موقع إيران من دولة عتبة نووية، إلى دولة نووية. ويعني ذلك، إلزام إسرائيل من الآن، والولايات المتحدة من ورائها، بضرورة الفعل الوقائي أو الاستباقي قبل فوات الأوان، إن لم يكن الأوان قد فات بالفعل.